العلاقة المؤذية علاقة انفعالية مفعمة بالعواطف والحرارة في الحلو والمر ، في العشق والشوق والغضب والغيرة ، وتفتقر إلى العقلانية والواقعية.. فتجد أطرافها يزيحون الواقع وعقباته ويتلاهون عن الظروف ومقتضياتها ويهربون بهذه العلاقة من الحقيقة، لكن ما الذي يجعلنا نسقط في العلاقات المؤذية ؟ (لماذا نحب الأوغاد) ؟
الإرضائية: تلك السمة تكاد تكون مشتركة بين ضحايا العلاقات
المؤذية، حتى تجد تلك العلاقة نوع من التكامل والاعتمادية بين نرجسي غير متعاطف
ولا يكترث بمشاعر الآخرين وامرأة ممتلئة بالحساسية المرهفة تجاه مشاعر الآخرين،
تعاطفية بشدة، دافئة التواصل بإفراط , شديدة الاكتراث بحزن الناس وغضبهم، وتكاد لا
تحتمل أن تجرح أحدًا ولو بمحض الاحتمال!
تلك الشخصية التي تحيا لإرضاء
الآخرين وإسعادهم، يستند عليها الجميع، تلك الرحبة واسعة الصدر، دافئة المشاعر
التي تستمع وتتقبل وترهق أعصابها في مواساة المحيطين ودعمهم.
تلك التي تتحول مع الوقت إلى
حوض لتفريغ آلامهم، ومكب يلقون به حكاياهم، وبئر مشيد لأسرارهم.
ولكن لا أحد ينزح آبارها هي!
تلك التي لا تستطيع أن تقول
(لا) ولا تعرف في لغتها (هذا لا يناسبني)!
الإيثارية المفرطة: تلك الفدائية المحترقة من أجل الآخرين، التي
تحمل درجة من درجات (عقدة الشهيد)، وتحيا دور المفدي والمخلص الذي يبذل آلام روحه
فقط من أجل راحة الآخر.. بشكل -لا واعي- تتسول محبة الناس عبر نظرات الرضا في
عيونهم، وتلبي شعورها بالوحدة عبر ربط المحيطين بها عبر البذل وتسديد احتياجاتهم
ولو على حساب احتياجاتها!
وكلما زادت تعاطفيتها المفرطة
تلك، وانخفضت قدراتها على الرفض خوفًا على مشاعر الآخرين؛ كلما كانت أكثر عرضة
للسقوط في بحر رمال الإيذاء الناعمة دون قدرة على الخلاص والفرار، وكلما ضعفت
قدرتها على التعافي والتحرر، وزاد قبولها لأعذاره حين يعود!
تلك الشخصية الإرضائية (السنيدة)
هي من يبتلع إساءات المؤذي ويصدق هراءه، وتعامله بأمومتها حينًا وبمشاعر الشفقة
حينًا، وتُقدِّم إرضائه على رغباتها أحيانا!
الإنقاذية: تلك التي تقتلها أمومتها وتنتحر طوعًا بفعل
الشفقة المتوهمة تجاه ذاك الطفل المستتر تحت جلد النرجسي تحاول أن تنقذه بالحب!
تظنُّ دومًا أن الحب قادرٌ
على مداواة جراحه، وأن مزيدًا من العطاء ربما يمنحه طاقة للتغيير، وأن مزيدًا من
تقبله واحتوائه سيجعله يومًا ما يتحول إلى الرفيق المثالي! أو أن معجزة سماوية ما
ستنزل يومًا على قلبه بفعل دعائها وتضحيتها واحتراقها المعطاء لأجل إرضائه، وأن
تلك المعجزة ستنزع تلك الوحشية الظاهرية منه وتعيده الملاك القدسي الأبيض، وحينها
يصبح كل شيء على ما يرام!
كل هرائها الانهزامي الموهوم
يقوم على الشفقة!
الشفقة هي مشنقتها التي تلفها
طوعًا كل صباح حول رقبتها لتلفظ أنفاسها في محاولة يائسة صبيانية لتغيير ما لا
يتغير!
تلك هي نجمة شباك دائمة
الحضور في الدراما المؤذية على الدوام!
هو يستمر بانتهاكها وإيذائها
وهي مشغولة بالتنقيب داخله عن هذا الطفل الموهومThe Inner Child الوهم الأكبر!
وأمومتها مقدمة على أنوثتها! ترى
النرجسي يحمل طفلًا مجروحًا داخله (وهو ما يستخدمه كطُعم دائم للإيقاع باللواتي يُنسبن
مع نظرة الشجن والوجع في عينيه.
تظن أنها مختلفة، وأن وحدها
بإمكانها مساعدة هذا الطفل الجريح داخله، وتُراهن على بياض متوهم ونورانية ضبابية
وخير شفيف داخله يصدره لها بإتقان، حتى تنسى خطاياه وسمعته وجراحات ضحاياه قبلها!
هي كعادتها تركز على الخير
والجميل، وتُراهن نفس المراهنة الحمقاء المتكررة دومًا!
ولسان حالها يقول:
* «سأتمكن من إنقاذه، ومساعدته».
* «داخلك
شخص طيب لا أحد يراك كما أراك!».
طُعمٌ لا تحتمله المرأة أبدًا..
فتسقط بالفخ؛ لأنها مصابة بالأمومة قبل أن تكون مصابة بالهوى! فتحصل على خيبتها
وخسارتها، وندوبًا لا يُداويها أي شيء.. وترحل! وتأتي أخرى، تلمح الطفل أيضًا من
نافذة عينيه.. وتتكرر القصة!
لم تفهم أيهنَّ أن هذا الطفل
الداخلي محض سراب لا أكثر! وأنه لا سبيل أمامهن لتغيير النرجسي أو استنقاذه!
الفراغ
العاطفي:
ذلك القاتل النفسي اللعين،
الجرف الخطر الذي يهوي بك بين يدي نرجسي!
هو فجوة تظهر داخل النفس
يمثلها احتياج لوجود أحدهم بالجوار.. تغذيها عدم تمكن الأهل والأصدقاء من التفهم
والمشاركة.. ويوسعها ذلك الجوع للاستناد والاستيعاب!
فتكبر أكثر وأكثر، تُشعرك
بغربة بالغة في محيطك واحتياج مفرط لمن تألفه ويألفك. وعمَّا قليل يصبح من الصعب
استيعاب تلك الفجوة، ويرهقنا الانتظار، وتغذيه الأفلام والروايات والشرود، وأحاديث
الأصدقاء!
فنبدأ نبحث عن (محل) وموضع لتُصب
عليه تلك الصورة لا واعيًا، فتختلط علينا الوجوه ويشتبه أمامنا العابرين. فنحب
أحدهم، هكذا.. فجأة! وتخدعنا أنفسنا بادِّعاء الحب، وهو ما ليس سوى وهمًا أحيانًا،
هو فقط الفراغ في الطبيعة يسعى دومًا للامتلاء بأي شيء!
بل ربما تبدأ أنفسنا في
التبرير لهذا الفراغ المتحول حبًّا ونمنحه مسحة مثالية مفرطة.. فنسميه حبًّا بغير
سبب، أو نتوهمه عشقًا غير مشروط، أو ندَّعي أنه حبٌّ من النظرة الأولى، أو حبٌّ
رغم البعاد، أو حبٌّ من طرف وحيد! وغيرها من المسميات التي ليست سوى أقنعة تواري
طبقات متراكبة من الوهم وخديعة الذات! وهو بالضبط ما يحتاجه النرجسي ليهبط على
حياتك!
ربما نفعل ذلك -لا واعيًا-
تجاه من تنتقيه، ربما بعشوائية أحيانًا.. فلا نشعر بهذا التحويل الخفي داخلنا! فربما
هو زميل عمل، أو صديق، أو ربما شخص غير متاح عاطفيًّا، أو ممنوع تزيده الممنوعية
اشتهاءً وبريقًا، ربما مدرس الثانوية، أو معيد الجامعة، ربما هو رمز مشهور، أو
شخصية مميزة على موقع افتراضي، وربما هو مجرد شخص عادي قذفه حظنا التعس أمام
تبعثرنا واضطرابنا وانعدام نضجنا العاطفي، فأحببناه ذات مصادفة!
لماذا
نحتاج هذا الحب الموهوم؟
لأنه يمنحنا الأمل الشفيف
والشعور بأننا كائنات مرئية محبوبة نشغل حيزًا من الاهتمام!
وفي هذه الحالة ينبغي أن نعرف
أننا لم نحب حقًّا؛ فقط كنا جاهزين بشدة للحب محتاجين له بشكل قد يسهل التوهم والالتباس!
إنك لم تحب هذا النرجسي
المتوحش حقًّا، أنت فقط أسقطت عليه صورة أحلامك المتخيلة، ومنحته قناعًا نحته
فراغك العاطفي، فظننت نفسك قد وجدت بغيتك لتوِّك!
تمامًا كالسراب يلمع أمام
الظمأن، وعطشه هو ما أسقطه حقًّا!
وإن أكثر الناس اقترافًا لأخطاء الاختيار هم أولئك الذين ينتظرون بشغف،
ويترقبون بتلهف، فتشتبه عليهم الوجوه، ويُسقطون فراغهم العاطفي على وجهٍ عابرٍ ما
فيشاهدونه بخلاف حقيقته.
ويستغلنا هذا الآخر ليحصل على
دعمٍ لارتعاشاته، ويتغذى على (مشاعرنا المعتقة) لبعض الوقت.
كنا ننفصم عن الواقع وندفن
الحقائق، ونُنكر الواضحات الجليات، ونؤول كل شيء ليوافق أملنا وهوانا، ونصنع قصورًا
من الدخان، وأحلامًا ضبابية نهرب بها من كل تعثر ووجع في حياتنا.
هذه العلاقة المتوهمة كانت
(البنج) تمنحنا في البداية ملاذًا وتخديرًا لكل فقد ورفض وخيبة وفشل.
العلاقات المرضية تبدأ هنا
حين تصير العلاقة محض هروب وفرار.
نهرب لأحلام اليقظة والتلصص
على هذا الشخص المحبوب؛ لنحصل على بعض الفرار والراحة من خشونة الواقع الذي لا
نحتمل شدته أحيانا! تمامًا كما يهرب المدمن لمادته الإدمانية ليُخدِّر كل شيء
يوجعه.
ومع الوقت، نخرج من مرحلة
الفراغ مرورًا بمرحلة التعلق الموهوم انتهاءً بمرحلة الإدمان! حتى يصير نزعه من
القلب أصعب من الفجوة الأصلية القديمة! ويصير اقتلاعه من النفس أقسى من الاحتياج
القديم الذي خلقناه لأجله! فندخل مرحلة أعظم من الوهم.. (الوهم المركب) فنظن أننا
نحيا حبَّنا الحقيقي والأول الذي لا يكرر، وإلَّا فكيف نحن لا نتمكن من النسيان
والتجاوز!
لم نفطن لحقيقة أننا فقط
موهومون بالبدء والنهاية؛ ففي البداية توهمنا الفراغ العاطفي إعجابًا، وفي النهاية
توهمنا التعلق والإدمان حبًا، فقط لأننا لا نستطيع التخلص منه!
ومع الوقت تبدأ حياتنا تتعثر
أكثر، فنحن نمنع الجميع من الاقتراب منا لأننا مشغولون بما نظنه حبَّنا المثالي
الذي لن يتكرر.
كنا نظنها في البداية مجرد
مغامرة خافتة.. قصة حب كالتي يحياها غيرنا.. فلا يمكن أن نبقى وحيدين والكل من حولنا
يحب ويهوى ويرتبط!
ولا نفهم أنها ربما تقضي على
سلامنا الداخلي ومكتسبات حياتنا وتأسرنا حتى تنهكنا بشدة وتفسد كافة زوايا كوننا
الصغير؛ لأنها لم تُؤسَّس سوى على الوهم لا أكثر!
لم نُصدِّق مَن يخبرنا أننا
نقوم بتدجين الوهم وتفريخ الوجع داخل روحنا! نزرع الوهم.. وعمَّا قليل نحصد
الخذلان الذي لن يمكننا احتماله!
تلك من مفارقات الهوي أن تظل تبحث عن حبيبٍ يستحق أن تدخله متحف
خيباتك الجواني، وتحمله بجولة في سراديب ندوبك وملفات أوجاعك المعلقة بمواضع لم
يدخلها أحد قبله؛ ظنًّا منك أنه سيبددها جميعًا.. فقط ليفاجئك بأنه من يمنحك نصبًا
تذكاريًّا لخيبة أضخم تحمل اسمه، ويهديك وجيعتك الأقسى وندبتك الأعمق على الإطلاق.
من كتاب (أحببت وغدًا .. للدكتور عماد رشاد عثمان .. الصادر عن دار
الرواق 2019)
0 التعليقات:
إرسال تعليق